الجمعة، 8 يناير 2010

أبعد ما يكون عن الدماء

أبعد ما يكون عن الدماء
" محمد نبي الرحمة r "
أنور محمود زناتي – كلية التربية – جامعة عين شمس
ما كان النبي r يحب القتال ، ولكنه دُفع إليه دفعاً ، لقد عاش أربعين عاماً ، قبل نزول الوحي ، في بلاد اعتادت امتشاق السلاح ، في كل مكان ، حيث القتال والأخذ بالثأر ، وحيث ينقضون على الغرماء كوحوش كواسر والويل لمن لا يُحسن عن نفسه الدفاع . في خلال هذه السنين الطوال ، لم يُسدد ضربة واحدة إلى إنسان ؛ وكذلك كانت حاله ، خلال الأربع عشرة سنة الأولى للرسالة ، مما يؤكد أنه مُحب إلى السلام بطبعه .
والحرب في نظره r شر لا يلجأ إليه إلا المضطر ، فلإن ينتهي المسلمون بالمفاوضة إلى صلح مجحف بشئ من حقوقهم خير لهم من سفك الدماء، وهذا ما حدث في صلح الحديبية حتى أن بعض الصحابة تحاوروا مع النبي r فيما جاء من شروطها ، ومن أشدهم في ذلك عمر بن الخطاب t ، حتى قال رسول الله : « إني عبد الله ولن يضيعني» ([1] ) ؛ ثم أمر الرسول r أصحابه بالتحلل من العمرة وبادر r بنفسه، فتحلل من العمرة، فتبعه المسلمون جميعا .

وما أروع قوله r يوم الحديبية : " والله لا تدعوني قريش إلى خطة توصل بها الأرحام ، وتعظم فيها الحُرُمات إلا أعطيتهم إياها " (2 ) .

فنجده r بهذا يحقن الدماء ، لأنه يعتبره خير من انتصار باهر للحق تزهق فيه الأرواح .

يقول r :} من ائتمَنه رجلٌ على دمِه فقتله فأنا منه بريء وإن كان المقتول كافرًا { (3 ) .
وقد نهى r عن قتل النفس ، واعتبرها من الكبائر والموبقات فعن أبي هريرةt عن النبي r قال ‏: }اجتنبوا السبع الموبقات قالوا‏:‏ يا رسول الله وما هن‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق .... { (4 ) .
:rالنبي وعن أنس بن مالك قال :
أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس ) (5 ) .}
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r :
}لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما{ (6 ) .

هل من مزيد ؟!
عن عبد الله بن مسعود: قال: قال النبي r :
}أوّل ما يقضى بين الناس في الدماء{ (7) .
إننا إذن أمام شخصية ذات خصائص إنسانية راقية سامية إنها شخصية محمد ابن عبد الله r .
الجنوح للسلم

لقد كان محمد r يكره الحرب ويجنح للسلم ويؤثر حل مشاكله بالوسائل السياسية إلى أبعد حد حقنا للدماء ومما جاء في أحاديثه r، إنه كان يقول:

}أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة { (8) .
فإلى هذا الحد نفر الإسلام ورسوله من الحرب حتى ما وافق اسمها أو كان منه مدانيا .
ومن الأحاديث النبوية التي تدعو إلى السِّلم فمنها قوله r :
} يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو و سلوا الله العافية.... { (9) .

وعند استقرأنا لسيرة الرسول r نجد إمكانية الاستدلال على أن السِّلم هو الخيار الأول في تعامله مع الآخرين فقد أقام الرسول مجتمع الإسلام في المدينة المنورة على أسس راسخة من المبادئ والقيم الأخلاقية من وحي الله العلي القدير.
وقد ظل الرسول r يطاول أعدائه سنوات طويلة واحتمل هو وأصحابه العذاب وكان على اجتنابه العدوان يحسن من فنون الحرب ما لم يكن يحسنه المعتدون عليه ، وإنه لم يجتنب الهجوم والمبادأة بالقتال لعجز أو خوف مما يجهله ولا يجيده ... ولكنه اجتنبه لأنه نظر إلى الحرب نظرته إلى ضرورة بغيضة يلجأ إليها ولا حيلة له في اجتنابها حيثما تيسرت له الحيلة الناجحة ، وكما يقال في الأقوال المأثورة " الاستعداد للحرب يمنع الحرب" وقال قائل :

قد علمت خيلك أني الصحصح ..... إن الحديد بالحديد يفلح
ولا تستطيع إلا أن تقابل عمل عدوك بمثله، أو على الأقل بما يزيل أثره فلا بد للحق أن يرد ، وإذا كان الظلم يستحكم ، فلا بد للعدل من أن يدفع ويحكم .
) سنة الله في الذين خلوا من قبلُ ولن تجد لسنة الله تبديلاً ( (10 ) .
وقد يتوهم البعض أن الحرب والتزام الفضيلة في الميدان نقيضان لا يجتمعان ، فإما الفضيلة وإما الحرب ، ولذلك كان لابد من هاد في هذا الأمر ، لتكون الحرب والفضيلة معاً في الميدان ، وذلك الهادي لابد أن يستمد هدايته من السماء ، لا من الطبائع الأرضية المتناحرة ، التي تختفي العدالة عند سيطرتها ، ولا يظهر إلا البغي ، ولسان حال كل محارب يقول : " ومن لا يظلم الناس يظلم " .
وإذا دققنا النظر في التوجيهات التي كان النبي الكريم r يمليها على جنوده، والغايات التي كانت نصب عينيه، أيقنا بأن المثل العليا والرغبة في هداية الناس والجنوح للسلم كانت تمثل الروح المهيمنة على دعوته وجهاده فقد كان جهاده من أجل مبادئ لا من أجل استعلاء أو غلبة أو استعمار وهذه المبادئ هي الحق والخير بأشمل وأوسع معاني الحق والخير .

ففي عمرة الحديبية تذكر المصادر الإسلامية أن رسول الله r" خرج في ذي القعدة سنة ست معتمراً لا يريد حرباً " وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة " ليأمن الناس من حربه ، وليأمن الناس أنه إنما خرج زائراً لهذا البيت ومعظماً له وكان الناس بين سبعمائة وألف وستمائة " . فلما كان بالحديبية أبت ناقته القصواء السير " فقالوا : خلأت . فقال : ما خلأت ، وما هو بها الخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها حرمة الله إلا أعطيتهم إياها " ( 11 ) .

ولقد استشار رسول الله r أصحابه ؛ فيما يفعل بعد أن منعته قريش من دخول مكة فأشاروا عليه بالحرب . فقال : ما خرجنا لقتال أحد إنما خرجنا عُماراً " (12) .

وفي غزوة تبوك عاد الجيش الإسلامي أدراجه بعد أن أيقن بانصراف الروم عن القتال في تلك السنة ، وكان قد سرى إلى النبي r نبأ أنهم يبعثون جيوشهم على حدود البلاد العربية . فلما عدلوا عدل الجيش الإسلامي عن الغزوة على فرط ما تكلف من الجهد والنفقة في تجهيزه وسفره .

وهكذا نجد الرسول r يقوم بوضع أساس سلم عالمي ، فهو لم يضع الأسس التي يعيش الأفراد بمقتضاها ، في سلام جنباً إلى جنب فحسب ، بل علمهم كيف تعيش القبائل والشعوب في سلام ، وعلمهم ، ما لم يجرؤ أحد قبله على إتيانه ، علمهم كيف تعيش العقائد والأديان جنباً إلى جنب في سلام ووئام . إنه أعظم من ظهر على وجه الأرض ، ومع ذلك كان عظيم التواضع .


المراجع :
([1] ) رواه مسلم (1785 ).
(2) أخرجه البخاري في الشروط باب الشرط في الجهاد ( 1/187: 192) .
(3) أخرجه أحمد (5/224، 437)، والبزار (2308)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/202)، والطبراني في الأوسط (4252، 6655، 7781)، وأبو نعيم في الحلية (9/24)، والقضاعي في مسنده (164)، قال العقيلي في الضعفاء (2/215): "أسانيده صالحة"، وقال الهيثمي في المجمع (6/285): "رواه الطبراني بأسانيد كثيرة، وأحدها رجاله ثقات"، وهو في صحيح الجامع (6103) .
(4 ) أخرجه البخاري في الوصايا(2766)، ومسلم في الإيمان(272)، وأبو داود في الوصايا(2876)، والترمذي في الوصايا(3686)، والبيهقي(13042)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) أخرجه البخاري في الديات (6871) واللفظ له، ومسلم في الإيمان (88)..
(6 ) أخرجه البخاري في الديات (6862) .
(7) أخرجه البخاري في الديات، باب قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) (6357)، ومسلم في القسامة والمحاربين (3178).
(8 ) رواه أبو داود (4950)، وأحمد (4 /345) عن أبي وهب الجشمي، وصححه شَيْخ الإسلام، وروي مختصراً بلفظ: {أحب الأسماء عند الله عبد الله وعبد الرحمن} عند مسلم (2132)، والترمذي (2833)، وأبو داود (4949) عن ابن عمر .
(9 ) أخرجه البخاري (2819)، ومسلم (1742) من حديث عبد الله بن أبى أوفى..
(10 ) سورة الأحزاب : آية 62.
(1[1] ) أخرجه البخاري في الشروط باب الشرط في الجهاد ( 1/187: 192) .
(12 ) أنظر ، الواقدي : المغازي ، ج2 ، ص 580 – 581 ، والبخاري : كتاب الشروط ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق